الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
{لاَ جَرَمَ} أي: حقًا: {أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ} أي: عن التوحيد، وهم المشركون، أو عن الحق مطلقًا فيتناول هؤلاء، وهذا كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر: 60].القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُم مَّاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلاَ سَاء مَا يَزِرُونَ} [24- 25].{وَإِذَا قِيلَ لَهُم مَّاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ} أي: لم ينزل شيئًا. إنما هذا الذي يتلى علينا أحاديث الأولين، استمدها منها. كما قال تعالى: {وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [الفرقان: 5].{لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ} أي: قالوا ذلك ليحملوا أوزارهم الخاصة بهم، وهي أوزار ضلالهم في أنفسهم، وبعض أوزار من أضلوهم، كقوله تعالى: {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [العنكبوت: 13]، فاللام في قوله: {لِيَحْمِلُوا} لام العاقبة؛ لأن ما ذكر مترتب على فعلهم، ولا باعثًا إما مجازًا، وإما حقيقة، على معنى أنه قدر صدوره منهم ليحملوا، وقد قيل: إنها للتعليل وإنها لام أمر جازمة، والمعنى: إن ذلك متحتم عليهم. فيتم الكلام عند قوله: {أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ} كذا في العناية، وقوله تعالى: {بِغَيْرِ عِلْمٍ} قال الزمخشري: حال من المفعول: أي: من لا يعلم أنهم ضُلال، وإنما وصف بالضلال واحتمال الوزر من أضلوه، وإن لم يعلم؛ لأنه كان عليه أن يبحث وينظر بعقله حتى يميز بين المحق والمبطل. فجهله لا يعذره: {أَلاَ سَاء مَا يَزِرُونَ} أي: ألا بئس ما يحملون. ففيه وعيد وتهديد.القول في تأويل قوله تعالى: {قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللّهُ بُنْيَانَهُم مِّنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِن فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ} [26].{قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ} أي: بأنبيائهم: {فَأَتَى اللّهُ بُنْيَانَهُم مِّنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِن فَوْقِهِمْ} أي: قلع بنيانهم من قواعده وأُسُسه فهدمه عليهم حتى أهلكهم و{الإتيان} يتجوز به عن {الإهلاك} كقوله تعالى: {فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا} [الحشر: 2]، ويقال: أُتِي فلان من مأمنه، أي: جاءه الهلاك من جهة أمنه، وأتى عليه الدهر: أهلكه وأفناه، ومنه الأُتُوُّ وهو الموت والبلاء. يقال أتى على فلان أتوُّ، أي: موت أو بلاء يصيبه، وقد جوَّز في الآية إرادة حقيقة هلاكهم. كالمحكي عن قوم لوط وصالح عليهما السلام، فيما تقدم. أو مجازه على طريق التمثيل؛ لإفساد ما أبرموه من هدم دينه تعالى. شبهت حال أولئك الماكرين في تسويتهم المكايد، للإيقاع بالرسل عليهم السلام، وفي إبطاله تعالى تلك الحيل، وجعله إياها أسبابًا لهلاكهم، بحال قوم بنوا بنيانًا وعمَّدوه بالأساطين. فأتى ذلك من قبل أساطينه بأن ضعضعت، فسقط عليهم السقف فهلكوا، ووجه الشبه: أن ما عدوه سبب بقائهم، عاد سبب استئصالهم وفنائهم، كقولهم: من حفر لأخيه جبًا وقع فيه منكبًا، وقوله: {مِن فَوْقِهمْ} متعلق بـ {خَرَّ}، و{من} لابتداء الغاية، أو متعلق بمحذوف على أنه حال من {السقف} مؤكدة، وقيل: إنه ليس بتأكيد؛ لأن العرب تقول: خر علينا سقف ووقع علينا حائط، إذا انهدم في ملكه وإن لم يقع عليه: {وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ} أي: الهلاك والدمار: {مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ} أي: لا يحتسبون.القول في تأويل قوله تعالى: {ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَآئِيَ الَّذِينَ كُنتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قَالَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالْسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ} [27].{ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ} أي: يذلِّهم ويهينهم بعذاب الخزي. لقوله تعالى: {رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ} [آل عِمْرَان: 192]، {وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَآئِيَ الَّذِينَ كُنتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ} أي: تعادون وتخاصمون المؤمنين في شأنهم، وفيه تقريع وتوبيخ بالقول، واستهزاء بهم؛ إذْ أضاف الشركاء إلى نفسه لأدنى ملابسة، بناء على زعمهم، مع الإهانة بالفعل المدلول عليها بقوله: {يُخْزِيهِمْ} أي: ما لهم لا يحضرونكم ليدفعوا عنكم! لأنهم كانوا يقولون: إن صح ما تقول فالأصنام تشفع لنا. فهو كقوله: {أَيْنَ شُرَكَاؤكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} [الأنعام: 22]، وقيل: حكي عن المشركين زيادة في توبيخهم {قَالَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ} وهم الأنبياء أو العلماء، الذين كانوا يدعونهم إلى الحق فيشاقونهم: {إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالْسُّوءَ} أي: الفضيحة والعذاب: {عَلَى الْكَافِرِينَ} أي: المشركين به تعالى. ما لا يضرهم ولا ينفعهم، وإنما قال: {الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ} هذا شماتة بهم، وزيادة إهانة بالتوبيخ بالقول، وتقريرًا لما كانوا يعظونهم، وتحقيقًا لما أوعدوهم به.القول في تأويل قوله تعالى: {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ فَأَلْقَوُاْ السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ فَادْخُلُواْ أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ} [28- 29].{الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ فَأَلْقَوُاْ السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ فَادْخُلُواْ أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ} هذا إخبار عن حال المشركين الظالمي أنفسهم بتبديل فطرة الله، عند احتضارهم ومجيء الملائكة إليهم لقبض أرواحهم، بأنهم يلقون السلم، أي: ينقادون ويسالمون ويتركون المشاقة، والعدول إلى صيغة الماضي؛ للدلالة على تحقق الوقوع، وأصل الإلقاء في الأجسام فاستعمل في إظهار الانقياد؛ إشعارًا بغاية خضوعهم واستكانتهم، وجعل ذلك كالشيء الملقى بين يدي القاهر الغالب على الاستعارة، وقوله تعالى: {مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سُوءٍ} منصوب بقول مضمر، حال. أي: قائلين ذلك. أو هو تفسير {للسلم} الذي ألقوه؛ لأنه بمعنى القول؛ بدليل الآية الأخرى: {فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْل} [النحل: 86]، كما يقولون يوم المعاد: {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام: 23]، {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ} [المجادلة: 18]. ثم أخبر تعالى أن الملائكة تجيبهم بقوله: {بَلَى إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} أي: فلا يفيد الإنكار والكذب على الأنفس: {فَادْخُلُواْ أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا} أي: مقدرًا خلودكم.قال ابن كثير: وهم يدخلون جهنم من يوم مماتهم بأرواحهم، وينال أجسادهم في قبورها. من حرها وسمومها. فإذا كان يوم القيامة سلكت أرواحهم في أجسادهم، وخلدت في نار جهنم {لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا} [فاطر: 36]. كما قال تعالى: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر: 46]، وقوله: {فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ} أي: بئس المقيل والمقام لمن كان متكبرًا عن آيات الله وإتباع رسله. فذكرهم بعنوان التكبُّر؛ للإشعار بعليته لثوائهم فيها. اهـ.
{ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ}.في الدنيا عاجلُ بلائهم، وبين أيديهم آجِلُه، وحَسْرةُ المُفِلس تتضاعف إذا ما حُوسِبَ، وشاهَدَ حاصِلَه.{قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ} يُسْمِِعُ الكافرين قولَ المؤمنين، ويبيِّن للكافة صِدْقَهم، ويقع الندمُ على جاهلهم، وأما اليومَ فعليهم بالصبر والتحمُّل، وعن قريب ينكشف الغطاء، وأنشد بعضهم: {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28)}.{ظَالِمِى أَنْفُسِهِمْ} بارتكاب المعاصي وهم الكفار.{فَأَلْقُوا السَّلَمَ} انقادوا واستسلموا لحكم الله.{مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سُوءٍ} جحدوا وأنكروا ما عملوا من المخالفات.{بَلَى إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} هكذا قالت لهم الملائكة، ثم يقولون لهم: {فَادْخُلُوا أَبْوَابَ} وكذلك الذين تقسو نفوسُهم بإعراضهم عن الطاعات إذا نزَلَتْ بهم الوفاةُ يأخذون في الجزع وفي التضرع، ثم لا تطيبُ نفوسهم بأن يُقِرُّوا بتفاصيل أعمالهم عند الناس، فيما يتعلق بإرضاء خصومهم لم أَخَلُّوا من معاملاتهم، ثم الله يؤاخذهم بالكبير والصغير، والنقير والقطمير، ثم يبقون أبدًا في وبال ما أحقبوه، لأن شؤم ذلك يلحقَهم في أُخراهم. اهـ.
|